فصل: الحالة الثانية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.الحالة الثانية:

أن تكون كلتا الروايتين صحيحة، ولإحداهما مرجح؛ لكون إحدى الروايتين أصح من الأخرى، أو لكون الراوي حاضر القصة، أو نحو ذلك من وجوه الترجيح، فالحكم أن نأخذ في السبب بالرواية الراجحة، دون المرجوحة.
مثال ذلك: ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه فقالوا: حدثنا عن الروح، فقام ساعة، ورفع رأسه فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: «{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}». وأخرج الترمذي، وصححه عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل- يريدون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: اسألوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ...} [الإسراء: 85] الآية.
فالأولى تدل على أن السائل اليهود، وأن نزولها بالمدينة، والثانية تدل على أن السائل الكفار، وأنها نزلت بمكة، والأولى أرجح لأمرين:
1- أنها من رواية البخاري، وهي أصح من رواية الترمذي.
2- أن الراوي في الأولى، وهو ابن مسعود كان حاضر القصة، ومشاهدا لها، أما الثانية فليس فيها أن الراوي لها- وهو ابن عباس- كان مشاهدا لها، ولا شك أن للمشاهدة قوة في التحمل.

.الحالة الثالثة:

أن تكون كل من الروايتين أو الروايات صحيحة ولا يمكن الترجيح، ولكن يمكن نزول الآية أو الآيات عقب السببين أو الأسباب، لعدم العلم بالتباعد، فيحمل ذلك على تعدد السبب والمنزل واحد.
مثال ذلك ما أخرجه البخاري من طريق عكرمة، عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة، أو حدّ في ظهرك»، فقال: يا رسول الله إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا، ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «البينة، أو حد في ظهرك»، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل الله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ...} فقرأ حتى بلغ: {إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
وروى مسلم في صحيحه بسنده، عن أنس بن مالك قال: إن هلال بن أمية، قذف امرأته بشريك بن سحماء، وكان أخا للبراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لا عن في الإسلام.. الحديث.
وهذه الرواية تدل أيضا- لكن لا بطريق التصريح- على أن الآية نزلت بسبب هلال.
وأخرج الشيخان عن سهل بن سعد قال: جاء (عويمر) إلى عاصم بن عدي فقال: اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع به فسأل عاصم رسول الله، فكره رسول الله المسائل، فأخبر عاصم عويمرا، فقال: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتاه فسأله، فقال: «إنه قد أنزل الله فيك، وفي صاحبتك القرآن...» الحديث.
فهاتان الروايتان صحيحتان، ولا مرجح لأحدهما، ويمكن الجمع بينهما بأن أول من سأل هلال بن أمية ثم سأل عويمر أيضا قبل الإجابة، فأنزل الله آيات اللعان، إجابة لهما معا.
وهذا التوفيق بين الروايتين أولى من ردهما، إذ لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، أو الأخذ بإحداهما دون الأخرى، لما فيه من الترجيح بلا مرجح وهو غير جائز.
وإلى هذا جنح الإمام النووي، فقال: ويحتمل أنها نزلت فيهما جميعا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين، فنزلت الآية فيهما.
وسبقه الخطيب فقال: لعلهما اتفق لهما ذلك في وقت واحد. وهذا ما رجحه السيوطي في الإتقان، وأسباب النزول.
وإذا انضم إلى هاتين الروايتين ما رواه البزار عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «لو رأيت مع أم رومان رجلا، ما كنت فاعلا به» قال: شرّا، قال: «فأنت يا عمر» قال: كنت أقول لعن الله الأعجز، وإنه لخبيث، فنزلت.
وعلى هذا تكون الآيات نزلت عقب هذه الأسباب كلها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: لا مانع أن تتعدد القصص، ويتحد النزول.

.الحالة الرابعة:

استواء الروايتين أو الروايات في الصحة، ولا مرجح لأحدهما، ومع عدم إمكان نزول الآية عقبهما، لتباعد الزمان، فالحكم، أن يحمل الأمر على تكرر النزول، ولا مانع من تكرر النزول؛ بل له حكم، قال ابن الحصار: قد يتكرر نزول الآية تذكيرا وموعظة، وقال الزركشي في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين؛ تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه.
ومثال ذلك، ما أخرجه البيهقي والبزار عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد، وقد مثل به، فقال: «لأمثلن بسبعين منهم مكانك» فنزل جبريل- والنبي واقف- بخواتيم سورة النحل: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} إلى آخر السورة.
وأخرج الترمذي، والحاكم، عن أبيّ بن كعب قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة، فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله سبحانه: {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا...} [النحل: 126- 128].
فالأولى: تفيد أن الآيات نزلت عقب أحد.
والثانية: تفيد أنها نزلت يوم الفتح، وبين أحد والفتح حوالي خمس سنين، فيبعد نزول الآيات عقبهما، مع التباعد في الزمن، وإذا، فلا مناص من القول، بتعدد النزول مرة يوم أحد ومرة يوم الفتح.
وهذا على أن سورة النحل مكية إلا خواتيمها كما روي.
وقد ذهب البعض إلى أن سورة النحل كلها مكية بما فيها هذه الآيات، وعلى هذا الرأي تكون نزلت ثلاث مرات، مرة بمكة، ومرة ثانية عقب أحد، ومرة ثالثة يوم الفتح.
وفي هذا التكرار تذكير الله لعباده بما اشتملت عليه الآيات من الإرشادات والآداب العالية، وهي: تحري العدالة والإنصاف عند الانتصار للنفس، وكبح جماح شهوة التشفي والإسراف في الانتقام عند النصر والظفر بالأعداء، وضبط النفس عند الغضب، والتذرع بالصبر عند وقوع المكروه، والتحلي بسعة الصدر، وجمال التقوى في جميع الحالات.
وقد جعل ابن كثير وابن حجر من هذا القسم آية الروح، وكأنهما لا يريان الجمع بين الروايتين بالترجيح كما بينا، ويريان الجمع بينهما بتكرر النزول.
ومما ذكر من هذا القبيل سورة الإخلاص فقد روي أنها نزلت جوابا للمشركين، وروي أنها نزلت جوابا لأهل الكتاب بالمدينة، فحمل على تكرر النزول.
ومن ذلك سورة الفاتحة فقد ذكروا أنها نزلت مرتين، مرة بمكة ومرة بالمدينة.
وقد أنكر بعض العلماء كون شيء من القرآن تكرر نزوله، وعلله بأن تحصيل ما هو حاصل لا فائدة فيه، وهو مردود بما ذكرنا من الفوائد والحكم.

.تنبيه مهم:

قد يكون في إحدى القصتين: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فيغلط الراوي فيقول: فنزل كذا، فيظن أن ذلك سبب للنزول وليس كذلك، فينبغي التنبه لذلك، وتحرير لفظ الرواية، وبذلك يسهل علينا الوصول إلى الحق والصواب في أسباب النزول.
مثاله: ما أخرجه الترمذي وصححه، عن ابن عباس قال: مر يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه، والأرضين على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، فأنزل الله: {وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [الزمر: 67] وقد وهم الراوي في قوله: فأنزل والحديث ورد في الصحيح بلفظ: فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب، ومما يؤيد هذا أن الآية مكية لا مدنية.
ومن أمثلته: ما أخرجه البخاري، عن أنس قال: سمع عبد الله ابن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه، فقال إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي:
1- ما أول أشراط الساعة؟
2- وما أول طعام أهل الجنة؟
3- وما ينزع الولد إلى أبيه، أو إلى أمه؟
قال: «أخبرني بهن جبريل عليه السلام آنفا»، قال: جبريل قال: «نعم» قال: ذلك عدو اليهود من الملائكة، فقرأ هذه الآية: {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ...} الآية، قال ابن حجر في شرح البخاري: ظاهر السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية ردّا على اليهود، ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ، قال: وهذا هو المعتمد، فقد صح في سبب نزول الآية قصة غير قصة ابن سلام.
وهكذا يتبين لنا أن فتلا كذا أو فقرأ كذا لا تدل على أنها نزلت حينئذ ويكون ذكرها عقب القصة، للاستشهاد كما في الأولى، أو للرد كما في الثانية.